تخيل معي للحظة: أنت تستمع إلى بودكاستك المفضل، صوت المضيف مألوف وودود، كأنه صديق قديم يشاركك أفكاره في جلسة حميمة. هذه هي روح البودكاست الحقيقية – بسيطة، صادقة، ومباشرة من القلب.

لكن انتظر لحظة! هل لاحظت مؤخرًا كيف بدأ المشهد يتغير في عالمنا العربي؟ فجأة، أصبحنا نرى إعلانات ضخمة لبرامج بودكاست، واستثمارات بملايين الدولارات، وشركات إنتاج تتسابق لإطلاق برامج جديدة كل يوم. حتى أن بعض المذيعين المشهورين مثل عمرو أديب قد بدأوا في تقديم برامج بودكاست على التلفزيون! يبدو الأمر رائعًا، أليس كذلك؟

لكن دعونا نتوقف للحظة ونأخذ نفسًا عميقًا. هل تشعر أن هذا المشهد مألوف بعض الشيء؟ نعم، لقد رأينا هذا الفيلم من قبل، ولكن في سوق مختلف . . . الغرب.

البودكاست, من البذور للجذور ثم الثمر

Requiem for the iPod Shuffle | WIRED

في يناير 2004، في زاوية هادئة من الإنترنت، ولد البودكاست على يد آدم كوري وديف واينر. هذان الرجلان، بفضول المبتكرين وشغف الهواة، طورا تقنية بسيطة لكنها ثورية – تقنية سمحت بتحميل الملفات الصوتية وتشغيلها على أجهزة محمولة مثل الآيبود.

تخيل الإثارة التي شعرا بها عندما نجحت تجربتهما الأولى. كانت البداية متواضعة للغاية – مجرد فكرة بسيطة لمشاركة الأفكار صوتياً. في ذلك الوقت، ربما لم يكن أحد يتخيل أن هذه الفكرة البسيطة ستنمو لتصبح صناعة بمليارات الدولارات. كان الأمر أشبه بزرع بذرة صغيرة، دون أن تعرف أنها ستنمو لتصبح شجرة ضخمة تظلل العالم بأكمله.

لكن البذرة نمت، ببطء في البداية، ثم بسرعة مذهلة. في السنوات الأولى، كان البودكاست هواية للمتحمسين التقنيين والمدونين الصوتيين. كان الأمر أشبه بنادٍ سري، حيث يتبادل الأعضاء التسجيلات ويستمعون إلى بعضهم البعض بحماس, ففي ذروة بودكاست مثل The Joe Rogan Experience كانت بعض الحلقات تصل إلى أكثر من 5 ساعات مستمرة و الأغرب هو إستماع الملايين لها !

ثم في منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، حدث شيء غير متوقع. شهد البودكاست طفرة هائلة، كما لو أن العالم اكتشفه فجأة. وكان برنامج “Serial” هو الشرارة التي أشعلت هذه الثورة. هذا البرنامج، الذي حقق في قضية جنائية حقيقية، جذب الملايين من المستمعين وأثار حوارات عالمية. فجأة، أصبح الجميع يتحدث عن البودكاست. في كل مكان – في المقاهي، وفي وسائل النقل العام، وفي اجتماعات العمل – كنت تسمع الناس يناقشون آخر حلقة من برنامجهم المفضل.

النمو كان مذهلاً. بحلول عام 2019، كان حوالي 90 مليون أمريكي يستمعون للبودكاست شهرياً. فكر في هذا الرقم لوهلة – 90 مليون شخص! هذا يعادل تقريباً ربع سكان الولايات المتحدة. لم يعد البودكاست مجرد وسيط إعلامي، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للكثيرين.

ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو مدى الثقة التي بناها البودكاست مع مستمعيه. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح من الصعب الوثوق بما نراه أو نسمعه، حقق البودكاست إنجازاً مذهلاً. وجدت الدراسات أن 63% من الناس يثقون في مضيف البودكاست المفضل لديهم أكثر من ثقتهم في مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي!

فكر في هذا للحظة – في عالم مليء بالضجيج الإعلامي والأخبار المزيفة، استطاع البودكاست أن يبني جسراً من الثقة مع مستمعيه. ربما يرجع ذلك إلى الطبيعة الحميمة للبودكاست – الشعور بأنك تستمع إلى صديق يتحدث مباشرة إليك، يشاركك أفكاره وتجاربه بصدق وشفافية.

وهكذا، من فكرة بسيطة ولدت في عام 2004، نما البودكاست ليصبح ظاهرة عالمية، لكن مع هذا النمو السريع، بدأت الأمور تتغير. الشركات الكبرى بدأت تلاحظ هذا الاتجاه الصاعد. وفجأة، بدأت الأموال تتدفق. البودكاست، الذي بدأ في غرف نوم الهواة وأستوديوهات الجراج المتواضعة، أصبح الآن مجال استثمار ضخم.

و مع تدفق الأموال، بدأ شيء في التغير. البودكاست، الذي كان يومًا ما صوتًا أصيلًا للشعب، بدأ يشبه شيئًا آخر – نسخة مصقولة ومكتوبة بعناية من البرامج التلفزيونية التقليدية. الشركات، في محاولتها لتحقيق أقصى استفادة من استثماراتها، بدأت في فرض أسلوب أكثر تحفظًا وتنميقًا. فجأة، بدا الأمر وكأن البودكاست فقد روحه الأصلية.

وماذا حدث بعد ذلك؟ انفجرت الفقاعة. في عام 2023، شهدنا موجة من التسريحات في شركات كبرى مثل Spotify و Amazon Music وNPR. حتى Spotify، التي استثمرت بكثافة في البودكاست، اضطرت لتسريح 200 موظف. لماذا؟ لأن النمو كان غير مستدام، وأصبح من الصعب على الكثير من البرامج أن تبرز وتحقق الربحية في ظل التكاليف المرتفعة للإنتاج, فلقد عزف المستمعون عن البرامج البراقة تلك لصالح مثيلاتها التي لازالت محتفظ بجهور البودكاست, بالعناصر الأساسية : الأصالة في المحتوى والشفافية فيما يعرض و الأهم هو بساطته دون تعقيد أو إنفاق مذهل, فقط نريد شئ نشعر بالألفة تجاهه دون أي تكلف. الآن، هنا نحن في الوطن العربي، نشهد ازدهارًا مماثلاً. يُقدر سوق البودكاست في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحوالي 6 مليارات دولار. شركات عالمية مثل Acast السويدية بدأت في الاستثمار في المنطقة، وبدأنا نرى شركات ناشئة محلية مثل The Potcast Productions في مصر تجذب الاستثمارات, فهل سنصل نحن الآخرون إلى هذا المنعطف الحاد في الصناعة ؟

البودكاست في الوطن العربي, هل التاريخ يعيد نفسه ؟

discussion
منتدى بودكاست الشرق الأوسط ٢٠١٩، مركز جميل للفنون في دبي الإمارات العربية المتحدة (ألكس أتاك/ كيرنينغ كلتشترز)

الجواب يعتمد علينا. نعم، الاستثمار في جودة المحتوى أمر رائع. لكن دعونا لا ننسى ما جعل البودكاست مميزًا في المقام الأول – الأصالة، والشفافية، والاتصال الحقيقي مع المستمعين. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن المستمعين في منطقتنا يفضلون الصيغ الأقصر للبودكاست مقارنة بالمستمعين الغربيين. هذا يعني أننا بحاجة إلى التكيف مع تفضيلات جمهورنا المحلي. لذا، إلى كل صانعي المحتوى، والمستثمرين، وعشاق البودكاست في عالمنا العربي – دعونا نتعلم من تجربة الغرب. دعونا نستثمر في الجودة، ولكن دون التضحية بالروح. دعونا نحافظ على ما يجعل البودكاست فريدًا – القدرة على التواصل مع الناس بطريقة لا يمكن لأي وسيط آخر أن يفعلها.

وإلى كل مستمع – تذكر أن صوتك مهم. استمر في دعم البودكاست الذي يتحدث إليك بصدق، الذي يشعرك بالاتصال الحقيقي. لأنه في النهاية، أنت من يحدد مستقبل هذا الوسيط الرائع.

فهل سنتجنب الفقاعة؟ هل سنحافظ على روح البودكاست الحقيقية؟ الإجابة بين أيدينا. دعونا نصنع مستقبلاً للبودكاست العربي يكون أصيلاً، صادقاً، ومتصلاً بجمهوره – تمامًا كما بدأ. ربما نحتاج فقط إلى تذكير أنفسنا بأن البساطة والأصالة هي ما جعل الناس يحبون البودكاست في المقام الأول. فهل نحن مستعدون لهذا التحدي؟

التعليقات معطلة.